عانت شعوب المنطقة، ومنها شعوب سوريا، لعقود طويلة، من تعطيل شامل لقدراتها الاجتماعية والسياسية، وذلك بسبب هيمنة قوتين رئيسيتين: الأنظمة العسكرية ذات الطابع القومي؛ وقوى الإسلام السياسي.
لم تأت هاتان القوتان من فراغ، بل كانتا نتاجاً لصراعات اجتماعية كبرى، ونجحتا في كثير من الأحيان في تمثيل تطلعات ومطالب فئات سكانية واسعة. إلا أن وجودهما لم يترسّخ إلا على حساب انتزاع استقلالية المجتمعات، وحرياتها الأساسية، وقدرتها على تمثيل ذاتها. لتفرض قضاياها على البشر المتعددين، بوصفها مبادئ متعالية على حياتهم، وساحقة لها. بل ارتكبت في أحيان كثيرة جرائم كبرى بحق مجتمعاتها، تصل لحد الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي والطائفي.
وسواء تعلّق الموضوع بقضايا الملكية وحقوق العمل؛ الصراعات الدولية والإقليمية؛ مواجهة الأنظمة الفاسدة أو الديكتاتورية؛ مقاومة الاحتلال، فقد رفضت القوى العسكرية والإسلامية أي سيادة للمجتمعات على شؤون حياتها، وضربت كل بوادر التنظيم المستقل، واضطهدت بشدة فئات محددة، وعلى رأسها النساء، والأقليات الدينية والإثنية. كما سعت لتفريغ المؤسسات النقابية والسياسية من محتواها، لتتسق كلها مع نموذجها الأحادي.
إلا أن هيمنة القوى العسكرية والقومية والإسلامية ليست قدراً، خاصة بعد اضمحلال دولها وتنظيماتها، وتحوّل معظمها إلى ميليشيات وعصابات إجرامية، تسود على مجتمعاتها بالعنف المحض. ولذلك فلا بد اليوم من الدفاع عن المجتمع، في وجه قوى الأمر الواقع.
الديمقراطية الاجتماعية مجموعة من المبادئ، التي تسعى إلى استعادة البشر لسيادتهم على عالمهم، وأبرزها:
- الوطنية الدستورية
الدولة الوطنية الدستورية ليست دولة دين أو عرق معيّن، بل تقوم على عقد اجتماعي، بناءً على مبادئ المشاركة والتعددية؛ والحقوق المتساوية لكل المواطنين؛ والاعتراف بالوجود الثقافي والتاريخي لكل الشعوب التي تتشارك بلداً واحداً، بعيداً عن التجريد القمعي عن “شعب واحد”، بهوية عرقية ودينية ولغوية وثقافية واحدة.
ترفض الوطنية الدستورية المحاصصة الطائفية، وما يُعرف بـ”ديمقراطية المكونات”، وكل المقولات المبنية على افتراض وجود “أغلبية”، في ذمتها “أقليات”. بل تؤكد على قيم الديمقراطية، والمواطنة، والتداول السلمي للسلطة، ضمن إطار دستوري وسياسي واضح المعالم، يمنع تغلّب أية فئة أو طائفة أو إثنية على الآخرين.
تؤمّن الوطنية الدستورية حيّزاً عاماً حرّاً، يتداول فيه كل المواطنون الأفكار والبرامج والحجج، وصولاً لإنتاج اجماع على قيم ومعايير مشتركة، تكون أساس الهوية الوطنية.
- العلمانية
لا يوجد معنى واضح لمفردة “مدنية” في العلوم السياسة، وترديدها محاولة لتجنّب ذكر العلمانية.
والعلمانية لا تعني إقصاء الدين عن المجال العام، ولا حتى “فصل الدين عن الدولة”، فكل الدول تدير الشؤون الدينية، وتتدخّل بها، بما يتسق مع دستورها وقوانينها.
العلمانية تعني الحياد الديني للدولة، بما يضمن أنها ليست دولة دين أو طائفة معيّنة، ومساواة مواطنيها أمام القانون، بغض النظر عن دينهم ومعتقدهم. وهي المبدأ الأساسي الذي يؤمّن حرية المعتقد والضمير والتعبير، ولذلك فهي عامل مركزي في الوطنية الدستورية.
تضمن العلمانية حق المواطنين كافة، في ممارسة عقائدهم الدينية، دون فرضها على الآخرين، وكذلك حق كل مواطن في تغيير دينه ومعتقده، إن شاء، أو التخلي عن كل دين. وبما أن العلمانية تضمن حق المتدينين بالتبشير بدينهم، فهي تضمن في الوقت نفسه، ولتحقيق توازن الحقوق الدستورية لكافة المواطنين، حق نقد الدين، بما لا يعكّر السلم الاجتماعي، أو يؤدي للعنصرية والتمييز الطائفي والديني.
- الحقوق المتساوية للنساء
تعاني النساء من منظومة قانونية ومؤسساتية، ترسّخ العنف الاجتماعي ضدهن، وتهدد حقهن بالحياة، والتواجد في الحيز العام.
إلغاء كافة التشريعات التمييزية ضد النساء، سواء كانت في القوانين الجنائية، أو قوانين “الآداب العامة”، أو قوانين الأحوال الشخصية، شرط لازم وضروري للديمقراطية على مستوى الدولة، ولتوازن الحقوق المدنية على مستوى القانون، ولحماية المواطنين كافة من الاعتداء على مستوى المجتمع.
وما ينطبق على نظام الدولة العام، ينطبق أيضاً على المؤسسات الخاصة، فأي عنف أو تمييز ضد النساء يجب أن يُعتبر انتهاكاً للدستور، وجريمة أو جنحة يعاقب عليها القانون.
- حق التنظيم الاجتماعي المستقل
لا يمكن للمجتمع ضمان حقوقه، ومواجهة أي تسلّط جديد، سواء كان سياسياً أو دينياً أو طبقياً، إذا ظل تابعاً لجهاز الدولة، أو أي سلطة أمر واقع. ولذلك فإن المطالبة بحق التنظيم الاجتماعي المستقل من أساسيات الديمقراطية الاجتماعية والوطنية الدستورية.
التنظيم الاجتماعي المستقل يعني ضماناً دستورياً كاملاً لتأسيس الأحزاب السياسية، والتنظيمات النقابية، والهيئات الاجتماعية والثقافية، بدون أي وصاية أو تدخّل، وبما يتسق مع القوانين المرعية، القائمة على حرية التعبير والمعتقد، وضمان السلم الاجتماعي.
- حقوق العمل
أغلبية المواطنين عاملون لا يملكون إلا قوة عملهم، ويعانون من الإفقار والاستغلال وغياب أدنى حقوق العمل، رغم أنهم المنتجون الأساسيون لأي ثروة اجتماعية.
يضطر ملايين العاملين للدخول في تعاقدات غير متوازنة مع سلطات كبرى، على رأسها الدولة والشركات الكبيرة، بل حتى أرباب العمل والمقاولين الصغار، ولذلك فإن الديمقراطية غير ممكنة، في ظرف تعاني فيه الأغلبية من أبشع أنواع الاستغلال والإقفار، اللذين يمنعانها من إيصال صوتها، ونيل حقوقها الاجتماعية والسياسية والدستورية.
تقوم الديمقراطية الاجتماعية على مناصرة حقوق العمل، والمطالبة بجعل أي سياسية اقتصادية-اجتماعية لمصلحة العاملين والفئات الأفقر، خاصة سياسات إعادة الإعمار، والتي يجب أن تكون لمصلحة أغلبية المواطنين.



