قامت دعاوى أيديولوجية كثيرة، ومنها الوطنية السورية والقومية العربية، على الارتباط بمفهوم المركزية والدولة المركزية، والتي لا تعني فقط المفهوم الدستوري والإداري للمركزية، وإنما أيضاً مركزية الهوية، والثقافة، واللغة، والدين، والأيديولوجيا. حدد جهاز الدولة في سوريا، عبر دستوره وقوانينه، ومؤسساته الأمنية والإدارية، وتعليمه العمومي وإعلامه الجماهيري، معنى “الشعب السوري”، مصادراً بذلك أساسيات حرية المعتقد والضمير والتعبير، وحق تقرير المصير الذاتي والجماعي، والحقوق الاجتماعية والثقافية للمواطنين.
في الدولة المركزية، تُعطى الأولية لسياسات وإجراءات المركز، بعُصَبه الحاكمة، وشبكات المصالح والنفوذ الملتفّة حولها، وتُبَدَّى مصالح طبقات وفئات اجتماعية على أخرى، ما يؤدي إلى تفاوت اجتماعي واقتصادي وتنموي كبير،وانتفاء العدالة في توزيع الموارد، وفرص الوصول إليها؛ وإلى نمو سكاني وعمراني عشوائي في مدن وبلدات مركزية، ما يعيق التطوير الحضّري بمعناه الأوسع؛ كما أنه يعرقل تسيير الشؤون الحياتية والإدارية والاقتصادية في الأطراف.
كذلك تحدد الدولة المركزية العرق واللغة والدين والثقافة ذات الامتياز، فقد عاش السوريون في جمهورية عربية، دين رئيس جمهوريتها الإسلام، والفقه الإسلامي مصدر أساسي لتشريعها، أو المصدر الأساسي؛ وتحت قوانين أحوال شخصية قائمة على التمييز الديني والجندري الممنهج؛ وأُجبروا على دراسة مواد دينيّة في التعليم العمومي، تخالف أبسط أساسيات حرية المعتقد. حددت تلك الدولة أيضاً التقاليد والطقوس المعترف بها، و”الثقافة الوطنية” الأصيلة، وأيضاً “الثوابت الاجتماعية”، مُقصيةَ بذلك عشرات التقاليد الثقافية والاجتماعية والدينية، ومانعةً الأفراد والجماعات من التعبير بشكل فعلي عن معتقدهم. كما صادرت الحق بتعبيرات أساسية، مثل نقد الدين والأيديولوجيا السائدة، ما أعاق تطورّ الثقافة الوطنية بأكملها، ومنع السوريين والسوريات من صياغة مشتركات فعلية، بناءً على تبادل الحجج والأفكار في حيّز عام حر.
اضطهدت الدولة المركزية النساء بشكل منهجي، عبر سلسلة من التشريعات والمؤسسات، التي أعطت امتيازاً للذكور، ودعمت البنى الأبوية. ومن “جرائم الشرف” في القانون الجنائي، وحتى قوانين الأحوال الشخصيّة، تعرّضت النساء لعنف اجتماعي مُشَرعَن؛ فيما أقصين من المشاركة في المؤسسات الأساسية، وتعرّضن لتمييز هيكلي فيها. ما يجعلهن من أكثر الفئات تضرراً من المركزية، سواء على مستوى المشاركة، والوصول إلى الموارد، والحماية من العنف، وحرية المعتقد والتعبير، وتقرير المصير الذاتي.
ظهرت، بعد سقوط نظام الأسد، دعوات كثيرة لتجاوز المركزية والدولة المركزية، من المطالبة باللامركزية الإدارية، مروراً بالفيدرالية والكونفدرالية والتسيير الذاتي، وصولاً إلى الانفصال التام. ما يجعل مستقبل الدولة والكيان السوري غير واضح ومحدد على المستوى المتوسّط والبعيد.
تتمتع كل تلك الدعوات بمبرراتها، بل حتى شرعيتها، نظراً للظروف المأساوية التي يتعرّض لها السوريون اليوم، واختلاف أوضاعهم الكبير، على المستوى المناطقي والإثني والاقتصادي والسياسي، إلا أنه من الصعب حالياً تحقيق توافق عام حولها، أو فرض مشروع واحد على الجميع، فما يزال الصراع الاجتماعي والسياسي على أشده على امتداد الخريطة السورية. رغم هذا، لا يمكن ترك ذلك الصراع يمضي بدون طرح مبادئ أساسية، يمكن أن تلعب دوراً أساسياً في توجيهه لمصلحة المتضررين الفعليين من المركزية، ومنع تحوّله إلى صراعات إثنية ودينية عبثية:
- مبدأ شعوب سوريا:
في سوريا شعوب، وليس شعباً واحداً، تتعدّد إثنياً ولغوياً وثقافياً ودينياً، وتختلف ظروفها بحسب بعدها أو قربها من “المركز”، بمعناه الأوسع. الاعتراف بهذه التعددية ليست دعوة للتفرقة، بل العكس صحيح، دعوة لتجاوز الهوية المركزية الإقصائية، التي عملت على الإلغاء والاستئصال تاريخياً، ما أدى إلى التفرقة والصراع. تلك الهوية ليست “هوية جامعة”، بل أساس كل الإشكاليات الطائفية والعرقية والاجتماعية، فيما التأكيد على مبدأ شعوب سوريا، والاعتراف المتبادل فيما بينها، يفتح مجالاً تواصلياً، قد يتيح مستقبلاً إنتاج المشتركات، وإقامة صيغ سياسية وقانونية أقرب للديمقراطية. - مبدأ مناهضة المركزية:
لا يمكن حكم شعوب سوريا ببنى ومؤسسات وعقلية مركزية. وقد أسقط السوريون، بشعوبهم المختلفة، مبدأ المركزية على أرض الواقع، سواء بتمرّدهم على نظام الأسد، أو على سلطات الأمر الواقع الحالية. وأي محاولة لاستعادة المركزية اليوم، ستعني حروباً دموية وإبادية، لن تصل إلى نتيجة. والأفضل حقن الدماء، عبر اعتراف الأطراف المختلفة بفشل المركزية السورية، وإبداء استعدادهم لتجاوزها. - مبدأ تقرير المصير:
يحق لشعوب سوريا المتعددة تقرير مصيرها، ضمن صيغ توافقية، لا تؤدي إلى ظلم أو استبعاد أي مجموعة، ضمن المناطق السورية المختلفة، كما لا تؤسس لصدام أو عداء دائم مع الآخرين. ما يجعل من حق تقرير المصير، على المستوى السوري، مبدأً تفاوضياً أكثر من كونه تأسيساً لحركات انفصالية مسلّحة، قد تؤدي لإطالة أمد الحرب الأهلية السورية.
- مبدأ العلمانية ومناهضة التمييز:
أي دعوة ضد المركزية، تحاول إقامة حكم ديني، أو تمييز ممنهج على أسس طائفية وعرقية، مرفوضة جملةً وتفصيلاً. لا يمكن الخلاص من المركزية عبر نقل ممارساتها وعقليتها إلى الأطراف، كما أن النضال لأجل حق تقرير المصير يجب أن يكون علمانياً ومناهضاً جذرياً للتمييز، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تقرير المصير لا يكون فقط على مستوى الجماعة أو الهوية، بل أيضاً على المستوى الفردي والفئوي والجندري، بما يشمل حرية التعبير والمعتقد والتنظيم الاجتماعي المستقل للجميع.
- مبدأ العدالة والمساواة:
لا تتحقق العدالة إلا بالمساواة أمام القانون لجميع المواطنات والمواطنين دون تمييز. ولا تكتمل من دون معناها الأوسع المتمثل بالعدالة الاجتماعية، التي تمثل الركيزة الأساسية للديمقراطية. والعدالة الاجتماعية لا تعني فقط تكافؤ الفرص، بل أيضًا ضمان الحقوق الاقتصادية للجميع، من خلال توزيع عادل للثروة الوطنية، يحدّ من التفاوتات الطبقية، ويكفل حقوق الفئات الأضعف. كما أنها تتطلب إعادة التوازن في التنمية بين المركز والأطراف، عبر توجيه الاستثمارات والبنى التحتية والخدمات العامة إلى المناطق المهملة والمنسية تاريخيًا، بما يضمن تكافؤ الفرص الجغرافية، ويؤسس لوحدة الإطار الوطني القائم على المساواة والإنصاف.



